المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في زمن المجاعة


حكايه عاشقه
03-07-2018, 04:52 PM
استخدم لاستكمال تمثاله الصخري الشعر الآدمي والأظافر البشرية وبقايا الملابس المهترئة , الباقي الوحيد بعد الموت من أولئك الذين سقطوا في قبضة الموت بعد هذه المجاعة الشرسة , التي طرقت بيوت الفقراء






والمعدمين , وعاثت تحطيما في أجسادهم , وقعدت بهم دون الهرب أو الاستغاثة أو الثورة عليها , واكلت م أجسادهم حتى بشمت , وظلموا جائعين , بأجساد ذات جلد تهدل وتقضيت على عظام وهنة بعد أن ذاب دهنهم





كان نحاتا موهوبا في زمن الضنك والفقر , ولكن الآن ليس أكثر من حفا قبور أو حانوتي قاتم يحترف تشييع الموتى , ويتقن إهالة التراب على الأجساد التي اقتاتها الجوع , ويستثمر الباقي القليل مما لن يمانع الموتى





بسلبهم إياه في إكمال تمثاله الصخري , الذي قده من الصخر منذ زمن , وأضني ذهنه تفكيرا وتدبرا في أي الأشكال سينحت منه , فكر في أن ينحته على شكل جواد السلطان ,لكنه تراجع عن الفكرة , إذ إن السلطان





يحب الخيل البرية لا الصخرية , وفي مرة أخرى فكر في أن ينحته على شكل حسناء ممشوقة القوام , لكن الحرمان الذي تحرك في داخله أورثه غصة خنقت أنامله , فمنعته من أن ينحته كما يحب , وآلا قراره إلى





أن ينحته على شكل طفل صغير يستجدي المارة بدموع صخرية خلابة , وخمن أنه سيجني الكثير من المال من هذا التمثال الحزين , إذ إن الأغبياء يسعدون باقتناء فنون الحزن , ويكلمون بها فالفقر بالمجان .





والفقراء هم من يبدعون الفنون في حين أن الأغنياء هم من يستمتعون بها .





لكن المجاعة المفترسة جعلته يتراجع عن تمثاله الصبي المستجدي , وشغلته بالموت وبالموتى , فقد داهمت المجاعة المكان على حين غرة , فقد كان من المتوقع أن الأمور ستزداد سوءا ما دام الوالي يضيق





الخناق على المواطنين ويرهقهم بالضرائب المضنية , ويشاركهم حتى في سعاداتهم وفي لحظات الجماع اللذيذة , في حين أن السلطان يمارس رياضاته المفضلة مثل ركوب جواري الفتنة , ومطاردة الشهب في





المجرات البعيدة .





أما الشباب من الرعية فقد كانوا نذورا وقرابين لحروب يعز أن تحصى لكثرتها تشتعل في بلاد غريبة , ولأسباب لا تعني أمهاتهم , ولا تستفز نخوتهم , وإن كانت أسبابا كافية لكي يحتكر التجار والمرابون السلع





والأغذية , ويقصروها على أصحاب الدراهم الذهبية , ويبقى الهواء الموجود المجاني الوحيد ملاذا للبطون الفارغة .





المجاعة كانت أقوى من أن تهزمها المدخرات القليلة والمؤن القديمة والأعمال ذات الأجور المتدنية , والحدود الصحراوية التي تختنق البلاد أشرس من أن يقطعها الجياع فارين لائذين بالعدم مما هم فيه , لذا فقد





استكان الجميع أمام الجوع , وتراجعوا أمام الحراب ذات الأتصال اللامعة إثر تتبعهم لروائح موائد الأغنياء والمترفين , فأحكم الجوع قبضته المهترئة على الجياع , ومحقهم دون رحمة أو نظرة عطف .





المشهد الرهيب هون من احتل قريحة النحات وأملى على طرقات أزميله الصغير أن ينحت تمثالا كبيرا على شكل مشهد موت عجيب , إذا إن الموت عملاق أسود ديلوك أجسادا غضة , وتتنزى من بين قبضتيه





أشلاء وأعضاء شبه مهروسة , وتحت قدميه تجثو غربان سمينة تلتهم بشهوة ما يسقط من بيد يديه , ولكي يكون التمثال أكثر صدقا واستحضارا لهيئة الموت البغيضة فقد استعان النحات الملهم بشعر بعض الموتى





وبأظافرهم وملابسهم , وثبتها بين يدي التمثال الموت , فكان التمثال حقيقة مجسدة للموت الذي يصهر المستضعفين دون رحمة .





المجاعة والموت الرهيب وأنات المنكوبين لم تمنع المترفين من أن يستمتعوا بما تجود به قرائح الملهمين الجياع , وأيدي الفنانين الفقراء , ديوان الثقافة أقام معرضا تسجيليا للمجاعة , شارك فيه الفنانون





الجائعون من كل البلاد وفي قلبه انتصب تمثال المجاعة الموت الذي حصد الكثير من الجوائز والصور والمقابلات التلفزيونية والصحافية .





اقتربت تلك الإعلامية الثرية المترفة من النحات , وسألته بفضول ضاربة صحفا عن حذائه المهترئ الذي تتفلت منه أصابع قميئة متسخة , وقالت له : ((أأنت من صنعت هذا التمثال ؟)). ابتسم النحات ابتسامة





كسيرة ساخرة , وقال لها بلا أدنى اهتمام : (( بل أنتم )).