يقال: العمر لحظة ، قد تغير مجرى الحياة .هذا ماحدث له بالضبط فذات مساء . خرج كعادته محاولا الفرار من ضجره . لم يحدد وجهة له ، ترك قدميه تقودانه حيث تشاءان غير عابئ بالريح الشتوية التي تمردت على تراتبية الفصول فراحت تعربد بنزق في أبهاء ماي ،ساخرة من المارة الذين فقدوا ظلالهم تحت عباءة الغيم الرمادي الذي يطلي الوجوه والجدران بغلالة من أحزان ، ويحرك في القلوب توجسا من الآتي.
كان الشارع طويلا تحيط بمجراه الأسود المحلات التجارية .، التي لم تعد تغري بالتبضع ، رأى الناس يسيرون وكأنهم نسخة واحدة تجمع بينها قواسم مشتركة تظهر بوضوح على وجوههم الكالحة ، وهاماتهم التي بدت وكأنها تحمل كل هموم العالم . افتقد الشارع صخبه ،.وألقه ولم يعد يسمع تلك الضحكات والمداعبات التي كانت تملآ فضاءه فانكمش وسحب كل مغرياته ثم سقط في بئر الكآبة .. لم يدر كم من الوقت مر به عندما توقف أمام قاعة محاضرات كان من المفروض أنها ستستضيف أمسية شعرية وبما أنه من عشاق الشعر تسمر أمام الباب ينتظر . كان وحيدا أمام الباب المغلق فعن له أن يتسلى باجترار الماضي كالعادة .من بعيد أقبلت. بخطاها الواثقة ولباسها الأنيق ووجهها الجميل.الخالي من الأصباغ . وقفت أمامه ألقت التحية مشفوعة بابتسامة فاتنة ساحرة . رد التحية ثم استرق نظرة إلى وجهها . هو السحر بعينه ، عيناها بحرلازوردي بلا قرار وشعرها الأشقر يحاكي إطارا ذهبيا يحيط بصورة رائعة . خفض بصره ، ثم ما لبث خيل إليه أنه رأى هذا الوجه من قبل لكنه عجز عن تحديد المكان والزمان، اشتدت حيرته فلم يشعر إلا وهو يوجه إليها سؤالا: سيدتي وجهك غير خاف عني ، لكنني لاأتذكر متى وأين رأيتك ؟، نظرت إليه مليا ثم ابتسمت وهي تقول لاأظن أننا التقينا من قبل ، وانفتح باب الحوار . كانت محدثة بارعة ومستمعة جيدة ، متفتحة ، لكن لديها خطوط حمراء ،رسمتها شخصيتها القوية .أخيرا انفتح الباب . دلفا إلى القاعة جلست إلى جانبه . قضيا لحظات ممتعة خرجا بعدها صديقين . سارت إلى جانبه حكت له شيئا عن حياتها ، وروى لها نتفا من مأساته ....
في المقهى جلست ترتشف الحليب بتلذذ وهو يتجرع القهوة السوداء بألم .. نظرت إليه طويلا ...ثم خاطبته : يبدو أنك قاسيت كثيرا؟. فتح فاه ليجيب فوضعت كفها على شفتيه .وأردفت: أعرف ما ستقول ، لكن. لنستمر لاأريد حزنا ولا شكوى ادفن الماضي الآن وافتح صفحة جديدة ، تأمل عينيها فرأى فيهما الصدق والطيبة .. ابتسم .قالت: أتعدني. همس: أعدك .
غادرا المقهى وهو يحس بأنه أصبح خفيفا وأن الأحمال التي كانت على كهله لم يعد لها وجود .نظر حوله مبتهجا فرأى الناس يصخبون ويضحكون وقد علت وجوههم علامات الفرح والتفاؤل . ورأى الشارع يزهو بدكاكينه ...والريح الشتوية غابت بعد أن طردتها نسائم الربيع ..فصاح : لاأحزان بعد اليوم.