الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الصادق الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ..
وبعد .. فهذا مما أعجب الخواطر ، وأبهج الضمائر ، وأتحف السرائر ،،
فأحببنا مشاركتكم به .. علّ كلمةً ههنا أصابت مقصدها ! ولعلّ جملة هنا أفادت قارئها !
مُختارُنا هنا بعنوان :
في حديث للنبي صلى الله عليه وآلِـه وسلم أنه قال : " كلٌ مُيسر لما خُلق له "صحيح البخاري .
إذاً .. فلماذا تُعتسَفُ المواهب ويُلوى عنق الصفات والقدرات لَيّا ؟
إن الله إذا أراد شيئاَ هيّأ أسبابه ، وما هناك أتعس نفساً وأنكد خاطراً من الذي يريد أن يكون غير نفسه ،
والذكي الأريب هو الذي يدرس نفسه ، ويسدُّ الفراغ الذي وُضع له ،
إن كان في الساقة كان في الساقة ،
وإن كان في الحراسة كان في الحراسة ،
هذا سيبويه شيخ النحو ، تعلم الحديث فأعياه ، وتبلد حسُّهُ فيه ، فتعلم النحو ، فمهر فيه وأتى بالعجب العُجاب .
يقول أحد الحكماء :
الذي يريد عملاً ليس من شأنه ، كالذي يزرع النخل في غوطة دمشق ، ويزرع الأُترج في الحجاز !
حسان بن ثابت لا يجيد الأذان ؛ لأنه ليس بلالاً ! وخالد بن الوليد لا يقسم المواريث ؛
لأنه ليس زيد بن ثابت ! رضوان الله عليهم أجمعين .
وعلماء التربية يقولون : حدِّد موقعك !
وللمعاركِ أبطالٌ لها خُلِقوا :: ~ :: وللدواوينِِ حُسِّابٌ وكُتَّابُ
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ }البقرة : 148 .
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } الأنعام 165 .
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } الأعراف : 160 .
الناس مواهب وقدرات وطاقات وصنعات ، ومن عظمة رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم
أنه وظّف أصحابه حسب قدراتهم واستعداداتهم ..
فعليٌ للقضاء ، ومعاذٌ للعلم ، وأُبي للقرآن ، وزيدٌ للفرائض ، وخالدٌ للجهاد ، وحسان للشعر ،
وقيس بن ثابت للخَطابة . رضوان الله عليهم أجمعين .
فوضعُ الندى في موضعِ السيفِ بالعلا :: ~ :: مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ الندى
الذوبان في الغير انتحار ، تقمص صفات الآخرين قتلٌ مُجْهِزٌ .
ومن آيات الله عز وجل : اختلاف صفات الناس ومواهبهم ، واختلاف ألسنتهم وألوانهم ،
فأبو بكر برحمته ورفقه نفع الأمة والملة ، وعمر بشدته وصلابته نصر الإسلام وأهله ،
فالرضا بما عندك من عطاء موهبة ، فاستثمرها ونمِّها وقدِّمها وانفع بها
{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } البقرة : 286 .
إن التقليد الأعمى والانصهار المسرف في شخصيات الآخرين وأدٌ للموهبة ، وقتلٌ للإرادة
، وإلغاء متعمد للتميز والتفرد المقصود من الخليقة !
تمرُّ بالإنسان ثلاثة أطوار : طور التقليد ، وطور الاختيار ، وطور الابتكار .
فالتقليد :
هو المحاكاة للآخرين وتقمص شخصياتهم وانتحار صفاتهم والذوبان فيهم ،
وسبب هذا التقليد هو الإعجاب والتعلق والميل الشديد ،
وهذا التقليد الغالي لَيحمل بعضهم على التقليد في الحركات واللحظات
،ونبرة الصوت والالتفاتات ، ونو ذلك . وهو وأد للشخصية وانتحار معنوي للذات !
ويا لمعاناة هؤلاء من أنفسهم ، وهم يعكسون اتجاههم ، ويسيرون إلى الخلف !!
فالواحد منهم ترك صوته لصوت الآخر ،
وهجر مشيته لمشية فلان ، ليت هذا التقليد كان للصفات الممدوحة التي تُثري العمر وتُضفي
عليه هالة من السمو والرفعة ، كالعلم والكرم والحلم ونحوها ،
لكنك تُفاجأ أن هؤلاء يقلدون في مخارج الحروف وطريقة الكلام وإشارة اليد !!
ونريد التأكيد على : إنك خلقٌ آخر وشيء آخر !
إنه نهجك أنت من خلال صفاتك وقدراتك ، فإنه منذ خلق الله آدم إلى أن ينهي الله العالم ،
لم يتفق اثنان في الصورة الخارجية للجسم ، بحيث ينطبق شكل هذا على شكل ذاك :
{ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } الروم : 22
. فلماذا نحن نريد أن نتفق مع الآخرين في صفاتنا ومواهبنا وقدراتنا ؟؟!
إن جمال صوتك أن يكون متفرداً ، وإن حسن إلقائك أن يكون متميزاً :
{ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } فاطر : 27 .
لا تحزن إن قلّ مالك أو رثّ حالك .. فقيمتك شيء آخر !
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قيمةُ كلِّ امرئ ما يُحسن .
فقيمة العالم علمه قلّ منه أو كثُر ، وقيمة الشاعر شعرهٌ أحسن فيه أو أساء .
وكلُّ صاحب موهبة أو حرفة إنما قيمته عند البشر تلك الموهبة أو تلك الحرفة ليس إلا ،
فليحرص العبد على أن يرفع قيمتَه ،
ويُغلي ثمنه بعمله الصالح ، وبعلمه وحكمته ، وجُودِهِ وحفظه ، ونبوغه واطلاعه ،
ومثابرته وبحثه ، وسؤاله وحرصه على الـفائـدة ، وتثقيف عقله وصقل ذهنه ، وإشعال الطموح في روحه ،
والنُّبل في نفسه ، لتكون قيمتُه غالية عالية .
أخيراً إخوة الخير .. فلنخرج جميعاً من ههنا بأربع نقاط :
1 / كلٌ مُيسر لما خُلق له ~
2 / الذوبان في الغير انتحار ، وتقمص صفات الآخرين قتلٌ مُجْهِزٌ ~
3 / إنك خلقٌ آخر وشيء آخر ~
4 /قيمةُ كلِّ امرئ ما يُحسن ~
فإن خرجتم من ههنا بهذه ، فقد عقلتم المطلوب ، ووصلت الرسالة ، وحينها فقط سيبدأ دور كل منكم ~
أن تكون : أنت .. كما أنت !
ولا ينسَ كلٌ منا أن يطور من مهاراته وقدراته وعلومه ، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاَ .
أسأل الله العظيم أن يوفقنا وإياكم لما فيه خيري الدنيا والآخرة ، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آلِه وصحبه والتابعين .
من كتاب ( لا تحزن / د. عائض القرني )